تشير استقراءات الأمم المتحدة إلى أن 50 في المئة من سكان الكرة الأرضية سيقطنون المدن بحلول عام 2007. ليس ذلك فحسب، بل تشير الاستقراءات نفسها إلى أن نسبة سكان الحضر ستصل على المستوى العالمي إلى 60 في المئة بحلول عام 2030. وهكذا فها نحن نتحول إلى كائنات حضرية. يجدر بالذكر هنا أن في ماضي سجل تكهنات الأمم المتحدة البعيدة الأمد ما يثير شهيتنا لمعرفة المزيد والكثير من الأشياء. فعلى سبيل المثال، كانت الأمم المتحدة قد بالغت في تكهناتها بالكثافة السكانية للعام 2000، بزيادة ما يقارب نصف مليار إضافي للرقم الحقيقي، متأثرة في ذلك بأجواء الخوف من الانفجار السكاني الهائل، التي سادت في ستينيات القرن الماضي. لكن وفيما لو اتضح أن تلك التقديرات لم تكن لتتجاوز الرقم الحقيقي إلا ببضع نسب مئوية لا تذكر، فإن المتوقع لأي تغير كبير في مكان إقامة أي كثافة سكانية عالية، أن يأتي حاملاً معه تغيرات كبيرة مصاحبة له. وقد انخرط المختصون والعلماء في مجالات البيئة والاقتصاد وعلم السكان والدراسات الحضرية وغيرهم، سلفاً في دراسة تلك التغيرات المحتملة. وقد خلص غالبية هؤلاء إلى توجيه إنذارات مبكرة بدنو الخطر. غير أنه ما من آذان تصغي بعد إلى كارثة التمركز الحضري هذه، باعتبارها مصدراً لنزاعات كامنة محتملة، إن لم تكن سبباً لإراقة الدماء. وفي الإمكان رد هذه المواجهة الصدامية بين سكان المناطق الريفية والحضرية، إلى أزمنة سحيقة خلت، ظل كل واحد منها يقذف بالاتهامات في وجه الآخر. فمنذ عصر سدوم وحمورابي وروما القديمة، وصولاً إلى مدن اليوم، تواصل التقليد الثابت في وصف المدن وضواحيها، بأنها معاقل الفساد والرذيلة والجشع والغطرسة والطفيلية. وفي المقابل فقد دمغ سكان الريف عادة في دولة إثر الأخرى، وبمختلف لغات العالم ولهجاته- بالغباء والجهل والسذاجة، على نحو ما نرى من كثرة الألقاب والأسماء التي تطلق عليهم في اللغة العامية التي يتحدثها أهالي الولايات المتحدة الأميركية. وعلى أية حال، فإن نزعة العداء للمراكز الحضرية لم تبلغ ما بلغته، إلا في أعقاب الثورة الصناعية في بريطانيا وغيرها من دول أوروبا الغربية، حيث شهدت هجرة الملايين من الفلاحين الجوعى البائسين من مزارعهم ومعاقلهم الريفية ليشكلوا مورداً لا ينضب للعمالة الرخيصة في المدن الصناعية المجاورة، على غرار ما تشهده الصين اليوم والكثير غيرها من الدول النامية. وكان أن عبرت نزعة العداء للمدن هذه المحيط الأطلسي ووجدت لها موضعاً حتى في القاموس السياسي الخاص بالرئيس الأميركي الأسبق توماس جيفرسون. فما أن بدأت كل من بريطانيا وفرنسا رحلة انتقالهما إلى عصر الصناعة ونشأة المراكز الحضرية، حتى قال "جيفرسون": لندع ورشنا الصناعية في مكانها في أوروبا. وإنه لخير لنا أن نحمل المواد والمهام إلى العمال هناك، من أن ندعهم يأتون إلى هنا بصناعاتهم وأخلاقهم وطبائعهم. وفي الخطاب نفسه أشار "جيفرسون" إلى سكان المدن بعبارة "الدهماء"، كما شبههم كذلك بالأورام والدمامل والتقرحات. وقد بادل "جيفرسون" السلوك نفسه إزاء سكان المدن، الكثير من قادة المفكرين والمثقفين الأميركيين على امتداد قرنين من الزمان، من جيل "رالف والدو إميرسون"، إلى جيل "هنري ديفيد ثوريو". وبالنظر إلى الماضي، فإنه في وسعنا رؤية هذه السلوكيات باعتبارها وجهاً من وجوه صراع تاريخي طويل الأمد، بين مصالح الموجتين الأولى والثانية، أي بين مصالح النخب المالكة للأطيان والعقارات، ومصالح تلك المجموعات التجارية والصناعية الناهضة وقتئذ، مع العلم أن هذه الأخيرة هي التي أحدثت موجة الانتقال إلى الحداثة والعصر الصناعي. وفي مستوى أكثر عموماً، فإنه يمكن وصف ذلك بأنه انعكاس لضرب من الصدام الداخلي بين الاحتياجات الاقتصادية: أي بين الفلاحين الطامعين لرفع أسعار أراضيهم ومنتجاتهم من المواد الغذائية من جهة، مقابل حاجات سكان المدن المتزايدة أعدادهم وكثافتهم السكانية، الطامحة لانخفاض أسعار الأراضي والمنتجات والسلع الغذائية من الجهة الأخرى. ومع الأخذ بخلفيات هذا النزاع، فإنه ليس من الغرابة في شيء أن شهد القرن العشرون اندلاع ثورات فلاحية دموية في الكثير من البلدان، من فيتنام إلى الجزائر فالمكسيك، وصولاً إلى روسيا، هي التي شكلت أحد أبرز معالم القرن العشرين. وبالمثل فإنه في وسعنا اليوم رؤية موجة كبيرة مذهلة من الصدام (الفلاحي-الصناعي) في الصين. فهناك يجري إرغام الملايين من الفلاحين الصينيين على مغادرة أراضيهم بغرض تحويلها إلى مصانع عملاقة، ولبناء الفنادق والمدن الصناعية والمراكز التجارية وغيرها. ووفقاً لإحصاءات صحيفة "الجارديان" البريطانية، فقد شهدت مختلف المناطق الريفية في الصين، مظاهرات احتجاج من قبل الفلاحين، بلغ معدلها 230 مظاهرة وموكباً في العام الماضي. وكان القاسم والدافع المشترك بين تلك المظاهرات جميعاً، الاحتجاج على مصادرة السلطات للأراضي من الفلاحين، بالتواطؤ مع فساد المسؤولين الحكوميين. وبالنتيجة فقد ثارت مخاوف بكين من نشوء حالة من البلبلة وعدم الاستقرار السياسي في المناطق الريفية، الأمر الذي دعاها إلى تخصيص ما يقدر بنحو 42 مليار دولار لبرامج التنمية الريفية في ميزانية هذا العام، وهي ميزانية تزيد على ميزانية العام الماضي 2005، بحوالي 14 في المئة. غير أن الصين ليست هي البقعة الوحيدة في العالم التي ينجم فيها النزاع والصدام ما بين الريف والمدينة، عن أعمال العنف وإراقة الدماء. ففي الهند على سبيل المثال، عمد نحو 3000 مزارع هناك إلى إغلاق طريق رئيسي من طرق المناطق الريفية، في شهر أغسطس الماضي، لا أكثر. وقد استجابت قوات الشرطة لذلك الحدث، بإطلاقها النيران على الفلاحين، مما أوقع خمسة منهم على الأقل صرعى فعلتهم تلك. بقي أن نقول إن الفعلة المقصودة هنا، إنما هي احتجاج الفلاحين على قرار حكومي قضى بتحويل مصارف المياه وقنواتها من مزارعهم إلى عاصمة محافظة "جيبور" التي تشهد الآن نمواً صناعياً وتجارياً متسارعاً، والواقعة على بعد 70 ميلاً في شمالي الهند. أما في الجارة تايلاند، فقد حقق تاكسين شيناواترا رئيس الوزراء السابق، فوزاً انتخابياً ساحقاً قبل شهور. ولم يكتب له هذا الفوز الكبير إلا باستقطابه لأصوات الناخبين الفلاحين، بوعده إياهم تأجيل سداد الفوائد المستحقة على قروضهم الممنوحة لهم من البنك الزراعي الحكومي. غير أن ذلك النصر لم يدم طويلاً على أية حال. فما أن توجه إلى نيويورك لحضور اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر المنصرم، حتى جابت الدبابات العسكرية الشوارع، ونفذ الجيش انقلاباً سلمياً أبيض عليه. وبالنتيجة فقد عادت السلطة السياسية في البلاد مجدداً لتتمركز في المدينة وليس في الريف، كما أراد لها شيناواترا. وبهذا نتجه غرباً لنصل أخيراً إلى أفغانستان. فهناك حيث تبسط حكومة كابول سيطرتها على المدن، بينما ظل الأفيون مصدر الدخل الفعلي وقوة الاقتصاد الريفي. وما أن جدت حكومة قرضاي وحلفاؤها في المساعي الرامية لوضع حد لزراعة وتجارة المخدرات هناك، حتى شهدت حركة "طالبان" عودة قوية في مختلف أنحاء الريف الأفغاني، مزعزعة بذلك أمن أفغانستان واستقرارها بكاملها. والمثير للاهتمام هنا الدعم الشعبي القوي الذي تحظى به اليوم حركة "طالبان" في الريف. وعلى حد قول "روبرت كابلان"، مؤلف كتاب "جنود الرب"، فإن الأرض الفاصلة في النصر أو الهزيمة العسكرية هناك، إنما هي الريف الأفغاني. ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"